.(المسألة) الثَّالِثَةُ:
لَا يَقَعُ النَّسْخُ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَوْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. أَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْنَى الطَّلَبِ فَلَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ، وَمِنْهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ.وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ عَرَفْتَ فَسَادَ صُنْعِ مَنْ أَدْخَلَ فِي كُتُبِ النَّسْخِ كَثِيرًا مِنْ آيَاتِ الْإِخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
.(المسألة) الرَّابِعَةُ:
النَّسْخُ أَقْسَامٌ:أَحَدُهَا: نَسْخُ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ، وَهُوَ النَّسْخُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَآيَةِ النَّجْوَى.الثَّانِي: مَا نُسِخَ مِمَّا كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، كَآيَةِ شَرْعِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، أَوْ كَانَ أُمِرَ بِهِ أَمْرًا جُمْلِيًّا كَنَسْخِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْكَعْبَةِ، وَصَوْمِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى هَذَا نَسْخًا تَجَوُّزًا.الثَّالِثُ: مَا أُمِرَ بِهِ لِسَبَبٍ، ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّفْحِ، ثُمَّ نُسِخَ بِإِيجَابِ الْقِتَالِ. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ نَسْخًا، بَلْ هُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُنْسَإِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
{أَوْ نُنْسِهَا} فَالْمُنْسَأُ: هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ، وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَبِهَذَا يَضْعُفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنْسَإِ، بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا، لِعِلَّةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ الْحُكْمَ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ لِلْحُكْمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ.وَقَالَ مَكِّيٌّ: ذَكَرَ جَمَاعَةٌ: أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الْخِطَابِ مُشْعِرٌ بِالتَّوْقِيتِ وَالْغَايَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَة:
{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [الْبَقَرَة: 109] مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ بِأَجَلٍ، وَالْمُؤَجَّلُ بِأَجَلٍ لَا نَسْخَ فِيهِ.
.(المسألة) الْخَامِسَةُ:
قَالَ بَعْضُهُمْ: سُوَرُ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَقْسَامٌ:قِسْمٌ لَيْسَ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ: وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ: سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، وَيُوسُفَ، وَيس، وَالْحُجُرَاتِ، وَالرَّحْمَنِ، وَالْحَدِيدِ، وَالصَّفِّ، وَالْجُمُعَةِ، وَالتَّحْرِيمِ، وَالْمُلْكِ، وَالْحَاقَّةِ، وَنُوحٍ، وَالْجِنِّ، وَالْمُرْسَلَاتِ، وَعَمَّ، وَالنَّازِعَاتِ، وَالِانْفِطَارِ، وَثَلَاثٍ بَعْدَهَا، وَالْفَجْرِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ؛ إِلَّا التِّينَ، وَالْعَصْرَ، وَالْكَافِرُونَ.وَقِسْمٌ فِيهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ: وَهِيَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ: الْبَقَرَةُ وَثَلَاثٌ بَعْدَهَا، وَالْحَجُّ، وَالنُّورُ، وَتَالِيَاهَا، وَالْأَحْزَابُ، وَسَبَأٌ، وَالْمُؤْمِنُ، وَالشُّورَى، وَالذَّارِيَاتُ، وَالطُّورُ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُجَادَلَةُ، وَالْمُزَّمِّلُ، وَالْمُدَّثِّرُ، وَكُوِّرَتْ، وَالْعَصْرِ.وَقِسْمٌ فِيهِ النَّاسِخُ فَقَطْ: وَهُوَ سِتٌّ: الْفَتْحُ، وَالْحَشْرُ، وَالْمُنَافِقُونَ، وَالتَّغَابُنُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْأَعْلَى.وَقِسْمٌ فِيهِ الْمَنْسُوخُ فَقَطْ: وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ الْبَاقِيَةُ. كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ مِمَّا سَيَأْتِي.
.(المسألة) السَّادِسَةُ:
قَالَ مَكِّيٌّ: النَّاسِخُ أَقْسَامٌ:فَرْضٌ نَسَخَ فَرْضًا، وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ، كَنَسْخِ الْحَبْسِ لِلزَّوَانِي بِالْحَدِّ.وَفَرْضٌ نَسَخَ فَرْضًا وَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ، كَآيَةِ الْمُصَابَرَةِ.وَفَرْضٌ نَسَخَ نَدْبًا كَالْقِتَالِ، كَانَ نَدْبًا ثُمَّ صَارَ فَرْضًا.وَنَدْبٌ نَسَخَ فَرْضًا، كَقِيَامِ اللَّيْلِ، نُسِخَ بِالْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِه:
{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [الْمُزَّمِّل: 20].
.(المسألة) السَّابِعَةُ:
النَّسْخُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:أَحَدُهَا: مَا نُسِخَ تِلَاوَتُهُ وَحُكْمُهُ مَعًا. قَالَتْ عَائِشَةُ:
«كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ: (عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ) فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ». رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي قَوْلِهَا: (وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ): فَإِنَّ ظَاهِرَهُ بَقَاءُ التِّلَاوَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: قَارَبَ الْوَفَاةَ، أَوْ: أَنَّ التِّلَاوَةَ نُسِخَتْ أَيْضًا، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ كُلَّ النَّاسِ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُوُفِّيَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْرَؤُهَا.وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: نَزَلَتْ ثُمَّ رُفِعَتْ.وَقَالَ مَكِّيٌّ: هَذَا الْمِثَالُ فِيهِ الْمَنْسُوخُ غَيْرُ مَتْلُوٍّ، وَالنَّاسِخُ أَيْضًا غَيْرُ مَتْلُوٍّ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ نَظِيرًا. انْتَهَى.الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ دُونَ تِلَاوَتِهِ؛ وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي فِيهِ الْكُتُبُ الْمُؤَلَّفَةُ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ قَلِيلٌ جِدًّا، وَإِنْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ تِعْدَادِ الْآيَاتِ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ بَيَّنَ ذَلِكَ وَأَتْقَنَهُ.وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُكْثِرُونَ أَقْسَامٌ:قِسْمٌ لَيْسَ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ وَلَا مِنَ التَّخْصِيص: وَلَا لَهُ بِهِمَا عَلَاقَةٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الْبَقَرَة: 1]. وَ
{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [الْبَقَرَة: 254] وَنَحْوِ ذَلِكَ.قَالُوا: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بَاقٍ.أَمَّا الْأُولَى: فَإِنَّهَا خَبَرٌ فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْفَاقِ، وَذَلِكَ يَصْلُحُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالزَّكَاةِ، وَبِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَهْلِ، وَبِالْإِنْفَاقِ فِي الْأُمُورِ الْمَنْدُوبَةِ كَالْإِعَانَةِ وَالْإِضَافَةِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ غَيْرُ الزَّكَاةِ.وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ: يَصْلُحُ حَمْلُهَا عَلَى الزَّكَاةِ، وَقَدْ فُسِّرَتْ بِذَلِكَ.وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التِّين: 8] قِيلَ: إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ أَبَدًا، لَا يَقْبَلُ هَذَا الْكَلَامُ النَّسْخَ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْأَمْرَ بِالتَّفْوِيضِ وَتَرْكِ الْمُعَاقَبَةِ.وَقَوْلُهُ فِي الْبَقَرَة:
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [الْبَقَرَة: 83] عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَنْسُوخِ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَدْ غَلَّطَهُ ابْنُ الْحَصَّارِ بِأَنَّ الْآيَةَ حِكَايَةٌ عَمَّا أَخَذَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْمِيثَاقِ، فَهُوَ خَبَرٌ لَا نَسْخَ فِيهِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ.وَقِسْمٌ هُوَ مَنْ قِسْمِ الْمَخْصُوصِ، لَا مِنْ قِسْمِ الْمَنْسُوخ: وَقَدِ اعْتَنَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِتَحْرِيرِهِ فَأَجَادَ، كَقوله:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْعَصْر: 2، 3- 3]،
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشُّعَرَاء: 224- 227]،
{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [الْبَقَرَة: 109] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي خُصَّتْ بِاسْتِثْنَاءٍ أَوْ غَايَةٍ.، وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ أَدْخَلَهَا فِي الْمَنْسُوخِ.وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [الْبَقَرَة: 221]. قِيلَ: إِنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِه:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [الْمَائِدَة: 5] وَإِنَّمَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِهِ.وَقِسْمٌ رَفَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا، أَوْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَنْزِلْ فِي الْقُرْآن: كَإِبْطَالِ نِكَاحِ نِسَاءِ الْآبَاءِ، وَمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَحَصْرِ الطَّلَاقِ فِي الثَّلَاثِ. وَهَذَا إِدْخَالُهُ فِي قِسْمِ النَّاسِخِ قَرِيبٌ، وَلَكِنَّ عَدَمَ إِدْخَالِهِ أَقْرَبُ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ. وَوَجَّهُوهُ: بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ عُدَّ فِي النَّاسِخِ لَعُدَّ جَمِيعُ الْقُرْآنِ مِنْهُ، إِذْ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ رَافِعٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْكِتَابِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا حَقُّ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ نَسَخَتْ آيَةً. انْتَهَى.نَعَمْ، النَّوْعُ الْأَخِيرُ مِنْهُ، وَهُوَ رَافِعٌ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِدْخَالُهُ أَوْجَهُ مِنَ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ.إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ: فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُكْثِرُونَ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، مَعَ آيَاتِ الصَّفْحِ وَالْعَفْوِ، إِنْ قُلْنَا إِنَّ آيَةَ السَّيْفِ لَمْ تَنْسَخْهَا، وَبَقِيَ مِمَّا يَصْلُحُ لِذَلِكَ عَدَدٌ يَسِيرٌ. وَقَدْ أَفْرَدْتُهُ بِأَدِلَّتِهِ فِي تَأْلِيفٍ لَطِيفٍ، وَهَا أَنَا أُورِدُهُ هُنَا مُحَرَّرًا:فَمِنَ الْبَقَرَة:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 180] مَنْسُوخَةٌ، قِيلَ: بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَقِيلَ: بِحَدِيث:
«أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَقِيلَ: بِالْإِجْمَاعِ، حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [الْبَقَرَة: 184]. قِيلَ: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الْبَقَرَة: 185]: وَقِيلَ: مَحْكَمَةٌ وَ(لَا) مُقَدَّرَةٌ.وَقوله:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [الْبَقَرَة: 187]. نَاسِخَةٌ لِقَوْلِه:
{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [الْبَقَرَة: 183]؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا الْمُوَافَقَةُ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ بَعْدَ النَّوْمِ؛ ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ.وَحَكَى قَوْلًا آخَرَ: أَنَّهُ نَسْخٌ لِمَا كَانَ بِالسُّنَّةِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَة: 217]: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه:
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 36]. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مَيْسَرَةَ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [الْبَقَرَة: 24] إِلَى قَوْلِه:
{مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [الْبَقَرَة: 240]. مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ
{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [الْبَقَرَة: 234]. وَالْوَصِيَّةُ مَنْسُوخَةٌ بِالْمِيرَاثِ، وَالسُّكْنَى ثَابِتَةٌ عِنْدَ قَوْمٍ، مَنْسُوخَةٌ عِنْدَ آخَرِينَ بِحَدِيث:
«وَلَا سُكْنَى».وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [الْبَقَرَة: 284] مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَة: 286].وَمِنْ آلِ عِمْرَانَ:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102]: قِيلَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقوله:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغَابُن: 16]، وَقِيلَ: لَا، بَلْ هُوَ مُحْكَمٌ. وَلَيْسَ فِيهَا آيَةٌ يَصِحُّ فِيهَا دَعْوَى النَّسْخِ غَيْرَ هَذِهِ الْآيَةِ.وَمِنَ النِّسَاء:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النِّسَاء: 33] مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه:
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الْأَنْفَال: 75].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 8] قِيلَ: مَنْسُوخَةٌ، وَقِيلَ: لَا، وَلَكِنْ تَهَاوَنَ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ بِهَا.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 15] مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ النُّورِ.وَمِنَ الْمَائِدَة:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [الْمَائِدَة: 2] مَنْسُوخَةٌ بِإِبَاحَةِ الْقِتَالِ فِيهِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الْمَائِدَة: 42] مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الْمَائِدَة: 49].وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [الْمَائِدَة: 106] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاق: 2].وَمِنَ الْأَنْفَال:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الْآيَةَ [الْأَنْفَال: 65] مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ بَعْدَهَا.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [بَرَاءَةَ: 41] مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْعُذْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الْآيَةَ [الْفَتْح: 17]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} [التَّوْبَة: 91] الْآيَتَيْنِ، وَبِقَوْلِه:
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التَّوْبَة: 122].وَمِنَ النُّور:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} الْآيَةَ [النُّور: 3] مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه:
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النُّور: 32].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الْآيَةَ [النُّور: 58]. قِيلَ: مَنْسُوخَةٌ، وَقِيلَ: لَا، وَلَكِنْ تَهَاوَنَ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ بِهَا.وَمِنَ الْأَحْزَاب:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 52]. مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه:
{إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 50].وَمِنَ الْمُجَادَلَة:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا} الْآيَةَ [الْمُجَادَلَة: 12]. مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ بَعْدَهَا.وَمِنَ الْمُمْتَحِنَة:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الْمُمْتَحِنَة: 11] قِيلَ: مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: بِآيَةِ الْغَنِيمَةِ، وَقِيلَ: مُحْكَمٌ.وَمِنَ الْمُزَّمِّل:قوله:
{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 2] قِيلَ: مَنْسُوخٌ بِآخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ نُسِخَ الْآخِرُ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.فَهَذِهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ آيَةً مَنْسُوخَةً، عَلَى خِلَافٍ فِي بَعْضِهَا، لَا يَصِحُّ دَعْوَى النَّسْخِ فِي غَيْرِهَا.وَالْأَصَحُّ فِي آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ وَالْقِسْمَةِ الْإِحْكَامُ، فَصَارَتْ تِسْعَ عَشْرَ، وَيُضَمُّ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 115]. عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه:
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 149]. فَتَمَّتْ عِشْرُونَ.وَقَدْ نَظَمْتُهَا فِي أَبْيَاتٍ فَقُلْتُ:
قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْ عَدَدٍ ** وَأَدْخَلُوا فِيهِ آيًا لَيْسَ تَنْحَصِرُوَهَاكَ تَحْرِيرُ آيٍ لَا مَزِيدَ لَهَا ** عِشْرِينَ حَرَّرَهَا الْحُذَّاقُ وَالْكُبَرُآيُ التَّوَجُّهِ حَيْثُ الْمَرْءِ كَانَ وَأَنْ ** يُوصِيَ لِأَهْلِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ مُحْتَضِرُوَحُرْمَةُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ مِنْ رَفَثٍ ** وَفِدْيَةٌ لِمُطِيقِ الصَّوْمِ مُشْتَهِرُوَحَقَّ تَقْوَاهُ فِيمَا صَحَّ مِنْ أَثَرٍ ** وَفِي الْحَرَامِ قِتَالٌ لِلْأُلَى كَفَرُواوَالِاعْتِدَادُ بِحَوْلٍ مَعْ وَصِيَّتِهَا ** وَأَنْ يُدَانَ حَدِيثُ النَّفْسِ وَالْفِكَرُوَالْحِلْفُ وَالْحَبْسُ لِلزَّانِي وَتَرْكُ أُولَى ** كَفَرُوا شَهَادَتِهِمْ وَالصَّبْرُ وَالنَّفَرُوَمَنْعُ عَقْدٍ لِزَانٍ أَوْ لِزَانِيَةٍ ** وَمَا عَلَى الْمُصْطَفَى فِي الْعَقْدِ مُحْتَظَرُوَدَفْعُ مَهْرٍ لِمَنْ جَاءَتْ وَآيَةُ نَجْـ ** ـواهُ كَذَاكَ قِيَامُ اللَّيْلِ مُسْتَطَرُوَزِيدَ آيَةُ الِاسْتِئْذَانِ مَنْ مَلَكْتَ ** وَآيَةُ الْقِسْمَةِ الْفُضْلَى لِمَنْ حَضَرُوا
.الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ وَبَقَاءِ التِّلَاوَةِ:
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ وَبَقَاءِ التِّلَاوَةِ؟فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْن:أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا يُتْلَى لِيُعْرَفَ الْحُكْمُ مِنْهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، فَيُتْلَى لِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ، فَتُرِكَتِ التِّلَاوَةُ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ.وَالثَّانِي: أَنَّ النَّسْخَ غَالِبًا يَكُونُ لِلتَّخْفِيفِ، فَأُبْقِيَتِ التِّلَاوَةُ تَذْكِيرًا لِلنِّعْمَةِ وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ.وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، أَوْ كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا أَوْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ أَيْضًا قَلِيلُ الْعَدَدِ؛ كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِآيَةِ الْقِبْلَةِ، وَصَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ حَرَّرْتُهَا فِي كِتَابِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ.